فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والدليل على أنَّ {لَنْ} لا تقتضي التَّأبيد قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] أخبر عن اليهود، ثم أبخر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرةِ يقولون: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] {ياليتها كَانَتِ القاضية} [الحاقة: 27].
فإن قيل: كيف قال: {لَن تَرَانِي} ولم يقل: لن تنظر إليَّ، حتَّى يُطابق قوله أنظرْ إليكَ؟
فالجوابُ أنَّ النَّظَرَ لمَّا كان مقدمة للرُّؤية كان المقصودُ هو الرُّؤيةُ لا النَّظرُ الذي لا رؤية معه.
والاستدراكُ في قوله: {ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} واضح، فإن قلت: كيف اتصل الاستدراك في قوله: {ولكن انظر إلى الجبل} فالجوابُ: المقصودُ من تعظيمُ أمر الرُّؤيةِ، وأنَّ أحَدًا لا يقوى على رؤية الله تعالى إلاَّ إذَا قواه الله بمعونته وتأييده؛ ألا ترى أنَّهُ لما ظهر أثر التَّجلي والرُّؤية للجبل اندكّ؛ فدل ذلك على تعظيم أمر الرُّؤيةِ.
فصل:
وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف اتَّصل الاستدراكُ في قوله: {ولكِن انظرْ}.
قلت: اتَّصَلَ به على معنى أنَّ النَّظر إليَّ محالٌ فلا تطلبه، ولكن اطلب نظرًا آخر، وهو أن تنظر إلى الجبل.
وهذا على رأيه من أنَّ الرُّؤية محالٌ مطلقًا في الدُّنيا، والآخرة.
قوله: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}: عَلَّقَ الرُّؤية على استقرار الجبل، واسترقار الجبل على التَّجلي غير مستحيل إذا جعل الله له تلك القوة، والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالًا.
قوله: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}:
قال الزَّجَّاجُ: {تَجَلَّى} أي: ظهر وبان.
ومنه يقالُ: جلوتُ العروس إذا أبْرَزْتهَا، وجلوتُ السَّيف والمرآة: إذا أزلت ما عليهما من الصَّدَأ.
وهذا البجل أعظم جبل بمدين يقال له: زبير.
قال ابن عباس: ظهر نُور ربِّهِ للجبل.
قوله: {جَعَلهُ دَكًّا} قرأ الأخوان {دَكَّاءَ} بالمدِّ، غير منوَّن، على وزن حمراء والباقون بالقصر والتَّنوين، فقراءةُ الأخوين تحتمل وجهين:
أحدهما: أنَّها مأخوذةٌ من قولهم: ناقةٌ دَكَّاء أي: منبسطة السَّنَام، غير مرتفعة، والمعنى جعله مستويًا.
وإما من قولهم: أرض دكاء للناشزة روي أنَّهُ لم يذهب كله، بل ذهب أعلاه.
وأمَّا قراءةُ الجماعة ف الدَّكُّ مصدر واقع موقع المفعول به بمعنى المدكوك، أي: مَدْكوكًا، أو من دكَّ، أو على حذف مضاف أي ذا دَكّ، والمعنى: جلعه مدقوقًا والدَّك والدَّقّ واحد، وهو تفتيت الشيء وَسَحْقُهُ.
وقيل: تسويته بالأرض.
في انتصابه على القراءتين وجهان، أشهرهما: أنَّهُ مفعولٌ ثان لجَعَلَ بمعنى: صَيَّرَ.
والثاني- وهو رأي الأخفش-: أنَّهُ مصدرٌ على المعنى، إذ التقدير: دَكَّهُ دَكًّا، وأما على القراءة الأولى فهو مفعول فقط أي صيره مثل ناقة دكاء أو الأرض دكًا.
وقرأ ابنُ وثَّاب دُكًّا بضم الدَّالِ والقصر، وهو جمع دَكَّاء بالمد، كـ: حُمْر في حمراء، وغُرّ في غَرَّاء أي: جعله قِطَعًا.
قال الكلبي: كسرًا جبالًا صغارًا.
ووقع في بعض التَّفاسير أنَّه تكسر سِتَّة أجْبُلِ، ووقعت ثلاثة بالمدينة: أحد، وودقان، ورضوى، ووقعت ثلاثة بمكة: ثور، وثبير، وحِرَاء.
قوله: {وَخَرَّ موسى صَعِقًا}.
الخُرورُ: السُّقُوطُ كذا أطلعه أبو حيَّان وقيَّدَهُ الرَّاغب بسقوطٍ يُسمع له خريرٌ، والخريرُ يقال لصوت الماءِ والريحِ.
ويقال كذلك لما يَسْقُطُ من علوٍّ وصَعِقًا حالٌ مقارنةٌ.
قال اللَّيْثُ: الصَّعْقُ مثل الغَشْي يأخذُ الإنسانَ والصَّعْقَةُ الغشي.
يقال: صُعِقَ الرَّجُلُ يُصْعَقُ، فهو مصعوق.
قال ابنُ عبَّاس: مَغْشيًا عليه.
وقال قتادةُ: ميتًا.
يقال: صَعِقَ إذا مات {فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} [الزمر: 68] فسَّرُوه بالموتِ.
وقال: {يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور: 45] أي: يموتون.
قال الزمخشريُّ: صعق أصله من الصَّاعقة.
والقولُ الأوَّلُ أولى؛ لقوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَاقَ}.
قال الزَّجَّاجُ: ولا يقال للميتِ: قد أفاق من موته، وقال تعالى في الذين ماتوا ثم أحيوا: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 56].
قوله: {فَلَمَّا أَفَاقَ} الإفاقة: رجوعُ الفهم والعقل إلى الإنسان بعد جنونٍ أو سُكرٍ ومنه إفاقة المريض، وهي رجوعُ قوته، وإفاقةُ الحلب، وهي رجوع الدِّرِّ إلى الضَّرع.
يُقال: اسْتَفِقْ ناقَتَكَ أي: اتركها حتَّى يعود لَبَنُها، والفُواق: ما بين حَلْبَتَي الحالب.
وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
قوله سُبْحَانَكَ أي: تنزيهًا لك من أن أسألك شيئًا بغير إذنك تُبْتُ إليكَ من سؤال الرُّؤية في الدُّنيا، أو من سؤال الرُّؤية بغير إذنك.
{وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} بأنك لا تُرَى في الدنيا، أو بأنَّه لا يجوز السُّؤال منك إلاَّ بإذنك.
وقيل: أوَّلُ المؤمنين من قومي.
وقيل: من بني إسرائيل في هذا العصر. اهـ. باختصار.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِى وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}.
جاء موسى مجيء المشتاقين مجيء المهيَّمِين، جاء موسى بلا موسى، جاء موسى ولم يَبْقَ من موسى شيءٌ لموسى. آلافُ الرجال قطعوا مسافاتٍ طويلة فلم يذكرهم أحد، وهذا موسى خطا خطواتٍ فإلى القيامة يقرأ الصبيان: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى}.
ويقال لمَّا جاء موسى لميقات باسطِ الحقِّ سبحانه سقط بسماع الخطاب، فلم يتمالك حتى قال: {أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْكَ}، فإنَّ غَلَبَاتِ الوجد عليه استنطقته بطلب كمال الوصلة من الشهود، وكذا قالوا:
وأبرحُ ما يكونُ الشوقُ يومًا ** إذا دَنَتْ الخيامُ من الخيام

ويقال صار موسى عليه السلام عند سماع الخطاب بعين السُّكْر فنطق ما نطق، والسكران لا يُؤخذ بقوله، ألا ترى أنه ليس في نص الكتاب معه عتاب بحرف؟
ويقال أخذته عِزَّةُ السَّمَاعِ فخرج لسانه عن طاعته جريًا على مقتضى ما صحبه مِنَ الأَرْيَحَيَّةِ وبَسْطِ الوصلة.
ويقال جمع موسى عليه السلام كلماتٍ كثيرةً يتكلم بها في تلك الحالة؛ فإن في القصص أنه كان يتحمل في أيام الوعد كلمات الحق، ويقول لمعارفه: ألكم حاجة إلى الله؟ ألكم كلام معه؟ فإني أريد أن أمضي إلى مناجاته.
ثم إنه لما جاء وسمع الخطاب لم يذكر- مما دبَّره في نفسه، وتحمله من قومه، وجمعه في قلبه- شيئًا لا حرفًا، بل نطق بما صار في الوقت غالبًا على قلبه، فقال: {رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} وفي معناه أنشدوا:
فيا ليلَ كم من حاجةٍ لي مهمة ** إذا جئتُكم ليلى فلم أدرِ ماهِيَا

ويقال أشدُّ الخَلْقِ شوقًا إلى الحبيب أقربُهم من الحبيب؛ هذا موسى عليه السلام، وكان عريق الوصلة، واقفًا في محل المناجاة، محدقة به سجوفُ التولي، غالبة عليه بوادِهُ الوجود، ثم في عين ذلك كان يقول: {رَبِّ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْكَ} كأنه غائب عن الحقيقة. ولكن ما ازداد القومُ شَرْبًا إلا ازدادوا عطشًا، ولا ازدادوا تيمًا إلا ازدادوا شوقًا، لأنه لا سبيل إلى الوصلة إلا بالكمال، والحقُّ سبحانه يصونُ أسرار أصفيائه عن مداخلة الملال.
ويقال نطق موسى عليه السلام بلسان الافتقار فقال: {رَبِّ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْكَ} ولا أقلَّ من نظرة- والعبد قتيل هذه القصة- فقوبل بالردِّ، وقيل له: {لَنْ تَرَانِى} وكذا قهر الأحباب ولذا قال قائلهم:
جَوْرُ الهوى أحسن من عَدْلِه ** وبخله أظرف من بذله

ويقال لمَّا صرَّح بسؤال الرؤية، وجهر صريحًا رُدَّ صريحًا فقيل له: {لَن تَرَانِى}، ولما قال نبيُّنا صلى الله عليه وسلم بِسِرِّه في هذا الباب، وأشار إلى السماء منتظرًا الرد والجواب من حيث الرمز نزل قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] فردَّه إلى شهود الجهات والأطلال إشارة إلى أنه أعزُّ من أن يطمح إلى شهوده- اليوم- طَرْفٌ، بل الألحاظ مصروفة موقوفة- اليومَ- على الأغيار.
ويقال لما سَمَتْ همَّتُه إلى أسنى المطالب- وهي الرؤية- قوبل بِلَنْ، ولمَّا رجِعَ إلى الخلْق وقال للخضر {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]، قال الخضر: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} [الكهف: 67] فقابله بلن، فصار الردُّ موقوفًا على موسى- عليه السلام من الحق ومن الخلْق، ليكون موسى بلا موسى، ويكون موسى صافيًا عن كل نصيب لموسى من موسى، وفي قريب منه أنشدوا:
...... نحنُ أهلُ منازلٍ ** أبدًا غرابُ البيْن فينا ينعق

ويقال طلب موسى الرؤية وهو بوصف التفرقة فقال: {رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} فأجيب بلن لأن عين الجمع أتم من عين الفَرْق. فزع موسى حتى خَرَّ صعقًا، والجبل صار دَكًّا. ثم الروْح بعد وقوع الصعقة على القالب مكاشفته بما هو حقائق الأحدية، ويكون الحقُّ- بعد امتحاء معالم موسى- خيرًا لموسى من بقاء موسى لموسى، فعلى الحقيقة: شهود الحقائق بالحقِّ أتمُ من بقاء الخلق بالخلق، كذا قال قائلهم:
ولوجهها من وجهها قمرٌ ** ولعينها من عينها كحل

ويقال البلاء الذي ورد على موسى بقوله: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى} {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} أتمُّ وأعظم منه قولُه: {لَن تَرَانِى} لأن ذلك صريحٌ في الرد، وفي اليأس راحة. لكنَّه لما قال فسوف أطْمِعُه فيما مُنعِه فلما اشتد موقُفه جعل الجبل دكًا، وكان قادرًا على إمساك الجَبَل، لكنه قهر الأحباب الذي به جَرَتْ سُنَّتُهم.
ويقال في قوله: {انظُرْ إِلَى الجَبَلِ} بلاءٌ شديد لموسى لأنه نُفِيَ عن رؤية مقصوده ومُنِيَ برؤية الجبل، ولو أذِنَ أَنْ يُغْمِضَ جفنَه فلا ينظر إلى شيء بعدما بقي عن مراده من رؤيته لكان الأمرُ أسهلَ عليه، ولكنه قال له: {لَن تَرَانِى وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ}.
ثم أشدُّ من ذلك أنه أعطى الجبل التَّجليَ؛ فالجبل رآه وموسى لم يَرَه، ثم أَمَرَ موسى بالنظر إلى الجبل الذي قدم عليه في هذا السؤال، وهذا- واللهِ- لصعبٌ شديد!! ولكن موسى لم ينازع، ولم يقل أنا أريد النظر إليك فإذا لم أرَكَ لا أنظر إلى غيرك بل قال: لا أرفع بصري عما أمرتني بأن أنظر إليه، وفي معناه أنشدوا:
أريدُ وصالَه ويريد هجري ** فأترك ما أريد لما يريد

ويقال بل الحق سبحانه أراد بقوله: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ} تداركه قلبُ موسى عليه السلام حيث لم يترك على صريح الرد بل علله برفق كما قيل:
فذريني أفني قليلًا قليلًا

ويقال لما رُدَّ موسى إلى حال الصحو وأفاق رجع إلى رأس الأمر فقال: {تُبْتُ إِلَيْكَ} يعني إن لم تكن الرؤية هي غاية المرتبة فلا أقل من التوبة، فَقَبِلَه تعالى لسمو همته إلى الرتبة العلية.
قوله جلّ ذكره: {تُبْتُ إِلَيْكَ}.
هذه إناخة بعقوة العبودية، وشرط الإنصاف ألا تبرحَ محلّ الخدمة وإِنْ حيل بينك وبين وجود القربة؛ لأن القربةَ حظُّ نفسك، والخدمةَ حقُّ ربك وهي تتم بألا تكون بحظ نفسك. اهـ.